0:18
السلام عليكم.
نبدأ هذا المحور بالإجابة على الأسئلة الموجودة في الاختبار
الذي تم طرحه قبل العرض المصور.
إن لم تكونوا قد أجبتم على هذه الأسئلة الخمسة، يرجى
العودة لها قبل الاستمرار في المشاهدة.
يرتكز الجواب على السؤالين الأول والثاني
على فهم المقصود من: "ولا يهمك" و "على راسي".
العبارتان تدلان على الموافقة والتعاون والإيجاب.
يرتكز الجواب على السؤالين الثالث والرابع، على إدراك
محددات الكلام اللائق عند الحديث مع أشخاصٍ مختلفين اجتماعياً.
يرتكز الجواب على السؤال الخامس على قدرتنا على التفريق بين
الجواب الصريح والجواب العام الذي يتجنب التفاصيل.
أود في البداية الاعتذار إن كنت قد استخدمت عباراتٍ غريبةً عن لهجتكم العامية
وبالخصوص للذين تعلموا اللغة العربية كلغةٍ أجنبيةٍ من دون الاحتكاك بلهجةٍ معينة.
لكن أتوقع أنه في معظم الحالات، سيكون الجواب على الأسئلة الخمس صائباً.
لم يكن المتحدث عندما قال: "ولا يهمك" يطلب من المحاور عدم الاهتمام.
ولم يكن عندما قال: "على راسي" في السؤال الثاني يقصد أن هنالك شيئاً ما على رأسه.
وفي السؤال الثالث، قد نتفق بأن الجواب "روحي خوديه" لا
يمكن إلا أن يكون صادراً من والد سمية أو شخصٍ قريبٍ منها.
أما في السؤال الرابع، فقد لا تليق عبارة "حبيت أتكلم معاك"
مع أيٍّ من الاختيارات إلا إذا كان المحاور صديقاً للمتكلم.
وأخيراً قد نتفق أن السؤال عن الحال في المحلات
التجارية ليس سؤالاً حقيقياً، والجواب عليه "الحمد لله" لا يكون عموماً جواباً حقيقياً.
بل هو جوابٌ عامٌ على سؤالٍ عامٍ في إطار اللياقة الاجتماعية المتبادلة.
إذا قمنا بالإجابة عن معظم هذه الأسئلة بشكلٍ جيد،
فنحن نتوفر على ما يسمى "كفاءةً تداولية".
تكمن الكفاءة
التداولية في القدرة على استخدام اللغة بشكلٍ مناسبٍ في مقاماتٍ اجتماعية مختلفة.
يهتم البحث في التداول بمفاهيم من قبيل الفعل الكلامي
والاستلزام الحواري ومبدأ التأدب في الكلام أو اللياقة ومبدأ التعاون.
وسنتطرق لها تباعاً بإيجاز.
قدّم الفيلسوف جون أوستن سنة 1975 مفهوم الفعل الكلامي في التداول.
ويتضمن ثلاثة أنواعٍ من الأفعال: الفعل القولي والفعل الضمني والفعل الناتج.
لتفسير المفاهيم الثلاثة لنتخيل مثلاً أنه خلال أحد
الجلسات العائلية اشتكى أحد المدعوين قائلاً: "الجو حار". الفعل
القولي هو أن الشخص يقول أو يخبر بأن الجو حار.
الفعل الضمني هو أن الشخص يتمنى تشغيل المكيف أو فتح النافذة مثلاً.
والفعل الناتج هو القيام بفتح النافذة.
وكمثالٍ آخر: الفعل القولي لعبارة "الموسيقى
صاخبة" هو أن الموسيقى صاخبة لا أقل ولا أكثر.
الفعل الضمني هو أن المتكلم يود تخفيض صوت الموسيقى.
والفعل الناتج هو قيام المتلقي بتخفيض الصوت.
يُعَرِّفْ غرايس (1975) الاستلزام
الحواري أوImplicature بأنها القصد اللغوي الذي
يُفهم ضمنياً من خلال قولٍ أو كلامٍ له معنىً ظاهريٌ مختلف.
فمن الممكن القول بأن فلاناً مريضٌ اليوم مثلاً لكي
يفهم الآخرون بأنه لن يحضر الاجتماع.
وبالتالي فـ "فلانٌ مريض" هو المعنى الصريح، و "فلانٌ لن
يحضر الاجتماع" هو المعنى الضمني.
ولذلك يشير غرايس إلى أن المتحدثين عموماً قد يقصدون
ما يقال، أو أكثر ما يقال، أو ما يقال بالضبط.
وإذا أخذنا مثلاً يقول فيه الأستاذ لطالبٍ أجاب إجابةً سيئةً
جداً: "ما شاء لله عليك"، فالمعنى الضمني هو عكس المعنى الصريح تماماً.
ولكن المعنى غالباً ما يُفهم بناءً على المعرفة المشتركة
بالسياق وبناءً على مبدأي التأدب والتعاون.
هناك ضوابطٌ تداوليةٌ لعملية التأدب تختلف من ثقافةٍ لأخرى.
وكذلك تختلف من لغةٍ لأخرى.
مثلاً: تُعتبرُ مقاطعة المتحدث شيئاً متداولاً في بعض الثقافات بحدودٍ معينة.
وتتخذ ثقافاتٌ أخرى ضوابط صارمةً جداً في موضوع مقاطعة الآخر.
وقد يُعتَبَرُ جرماً تداولياً يؤدي لفشل المحادثة.
وهذه بعض الأمثلة عن الاختلافات الثقافية في موضوع اللياقة الاجتماعية.
8:29
بالرغم من أن هذه المبادئ متعارفٌ عليها لحدٍ كبير، إلا أن البعض
انتقد كونها لا تتماشى دائماً مع الاختلافات الثقافية التي تحدثنا عن بعضها فيما سبق.
كما أنها قد تتعارض مع مبادئ أخرى كالاستلزام الحواري.
فالاعتماد على المعاني الضمنية مثلاً مقبولٌ ومتعارفٌ عليه ولا يخرق مبدأ التعاون.
مع أنه يناقض إلى حدٍ ما تعريف مبدأ الطريقة.
وقد يعتبر الغموض وتجنب المباشرةِ من علامات حُسنُ اللياقة.
يُعتبرُ علم التداوليات من أكثر العلوم اللسانية تشعباً وغنىً.
ويستحيل تلخيص كل مبادئه في محاضرةٍ واحدة.
ولكن آمل أن تكون المبادئ المذكورة آنفاً كفيلةً
بفتح شهيتكم للاطلاع على المزيد من أدب التداوليات واستنتاجِ فوائدها
في فهم الظواهر التواصلية التي تشكل عمود الإعلام الفقري.
9:29
مرةً أخرى يجب التذكير بأن الإعلامي هو ابن وسطه.
ولا يحتاج الإعلامي المتمرس المجرِّب للكثير
من التنظير من أجل التمكن من إنجاح مهامه التواصلية.
ولكن فهم مبادئ التداول يُسَهِّلُ بلا شكٍ أداء
الإعلاميين لرسالتهم، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالانفتاح
على الثقافات الأخرى أو استهدافها بالمحتوى الإعلامي.
كما يسمح هذا الفهم باختصار الوقت لأن التعلم عبر التجربة
يتطلب وقتاً ولا يغني عن ارتكاب الأخطاء.
يتنوع الغرض الإعلامي كثيراً فمن الإعلاميين من يهتم بالأخبار
والحقائق، ومنهم من يعالج مواضيع اجتماعية بشكلٍ عفويٍ تحاوريٍ مثلاً.
ومن الإعلاميين من يعمل في وسطٍ منفتحٍ على العالم، ومنهم من يهتم بالشؤون المحلية.
ولذلك، لا نهدف لتحديد استنتاجاتٍ صالحةٍ لكل زمانٍ ومكان.
ونترك لكم أنتم فرصة استخلاص الاستنتاجات التي تفيد نطاق عملكم.
ولنتذكر جميعاً أن الفكر النقدي وطرح الأسئلة والملاحظة المستمرة
المستنيرة بزادٍ نظري، هي الكفيلة بإنجاح المهام التواصلية في شتّى مشارب الحياة.
نقدم فيما يلي مثالين على أهمية المعرفة النقدية بأصول التداول لدى الإعلاميين.
أولاً: الضمنية والوصول للمعلومة.
قد لا يحتمل الغرض الإعلامي
الإخباري أو الاستقصائي الكثير من الضمنية.
وبالتالي يكون الإعلامي حريصاً على استبدال المعنى الضمني بالصريح.
فهو بمثابة قيّمٍ على المفاهيم الصريحة التي لا تحتمل الكثير من التأويل.
ويتطلبُ ذلك درجة من الحساسية تجاه المعاني الضمنية المقدمة له.
يقومُ الإعلاميون المتمرسون عادةً بإعادة
توجيه التصريحات لتنتقل مما هو ضمني لما هو صريح.
لنأخذ مثالاً. إن قال مسؤولٌ حكوميٌ مثلاً:
"هناك صعوباتٌ تشريعيةٌ تؤخر المضي في الإصلاحات بالشكل المطلوب"، من الممكن
للإعلامي أن يسأل عن الجهة المسؤولة في البرلمان عن عرقلة التغيير ولماذا.
وقد يُطوِرُ النقاش حول مدى ثقة البرلمان بالحكومة.
وهذا معطىً غايةٌ في الأهمية للجمهور.
في هذا المثال، قام الإعلامي ببساطةٍ بتحويل الضمني للصريح.
أي أنه ترجم الصعوبات التشريعية لمفهومٍ صريحٍ هو معارضة غالبية أعضاء البرلمان.
ثانياً: تعطيل مبدأ التعاون.
يكون من واجب الإعلامي في الكثير من الأحيان توجيه الأسئلة
الصعبة والتي لا يريد المُستجوَب الرد عليها بصراحةٍ كاملة.
ولذلك يجب على الإعلامي في الكثير من الأحيان
العمل على أساس تعطيل مبادئ التعاون في المحادثة.
ويتم ذلك بالافتراض بأن محاوره سيخلّ حتماً بمبادئ
الكمّ والكيف والمناسبة والطريقة التي تحدثنا عنها سلفاً.
أي أنّ المستجوَب قد لا يُعَبِرُ عن الواقع كما هو(الكيف)
أوأنه سيلجأ للإسهاب في الأمور الثانوية استهلاكاً للوقت(الكم)
أو أنه سيبتعد عن الموضوع الأساسي (المناسبة)
أو أنه سيتحرّى اللبس في المصطلحات (الطريقة).
وكمثالٍ على تعطيل مبدأ التعاون شاطر الصحفي والمحاور البارز
وأحد المخضرمين في بعض أشهر المؤسسات الإعلامية "تيم سيباستيان"، شاطر
خلال لقاءٍ له مع بعض طلاب جامعة نورثويسترن في قطر حيلةً يستخدمها لاستدراج ضيوفه.
قال بأنه دائماً ما يبدأ بطرح الأسئلة التي تحضر في ذهنه ثانياً وليس أولاً.
وكمثالٍ على ذلك، قال إنه عندما يحاور مسؤولاً سياسياً ما لا
يبدأ مثلاً بالسؤال: "هل تعتبرون وجودكم في هذا البلد احتلالاً؟"
بل يسأل: "متى ستنهون احتلالكم لهذا البلد؟". ما يقوم به
سيباستيان في هذا المثال هو عدم إتاحة الفرصة للمسؤول السياسي
لتجنب الأسئلة المهمة والدخول في جدلٍ حول التعريفات.
وبالتالي يمكن بحقٍّ مقارنة تفاعل الإعلامي مع ضيوفه
بلعبة شطرنجٍ يجب على الإعلامي التحكم بحركاتها بشكلٍ منظمٍ وواعٍ.