0:00
بعد أن تحدثنا عن الفروق بين الأشخاص في الذكاء ننتقل الآن للحديث عن الشخصية.
ما هي الشخصية؟
الشخصية هي مصطلح واسع جدًا قام الكثير من المنظرين بتعريفه بطرق مختلفة.
إذ زعم سيغموند فرويد، على سبيل المثال، أن ما يحرك شخصياتنا هي دوافع عدوانية
وجنسية غير واعية، بينما قال منظر بارز آخر هو كارل روجرز أن لدى الأشخاص
ميول فطرية للكبر والنمو ولإحداث تغيرات إيجابية في حياتهم.
هذان المنظران البارزان استندا في مزاعمهما في الدرجة الأولى إلى الخبرة السريرية
التي جمعها كل منهما من خلال لقاءات مع الخاضعين للعلاج لديهم، وقد توصل كل منهما لنتائج معاكسة.
كما أن أجزاءًا كبيرة من نظرياتهم ومن نظريات الكثير من المنظرين الآخرين في
مجال الشخصية كيونغ وأدلر لم يتم اختبارها بواسطة أبحاث تجريبية.
نحن، كما هي عادتنا، سنركز هنا على طريقة أخرى لتعريف الشخصية،
وهي طريقة تستند إلى أبحاث كمية تجريبية.
سنرى أن إيجابية استخدام الأسلوب الكمي التجريبي في تعريف الشخصية هو أنه يمكننا من أن نقوم
بتكرار الاختبار، على عينة أخرى من الأشخاص، للتأكد من أن النتائج التي نحصل عليها تتفق والنظرية.
وإن لم يكن الأمر كذلك فبالإمكان تغيير النظرية.
لاختبار الشخصية علينا أن نقوم أولاً بتعريفها.
نعرف الشخصية على أنها مجموعة من السمات، ونعرف السمة على أنها ميل ثابت نسبيًا للتصرف بطريقة ما.
كيف نقوم باختبار شخصيات الناس؟
في الماضي البعيد مثلاً كان الناس يعتمدون على ملامح الوجه كمؤشر على الشخصية.
بل وقد تم الزج ببعض الناس في السجن لأن ملامح وجوههم كانت تبدو كملامح المحتالين.
في مقتطف من سيرته الذاتية كتب داروين أنه كاد لا يُسمح له بركوب بيغل،
وهي السفينة الشهيرة التي أبحر على متنها إلى جزر غالاباغوس، حيث وضع نظرية التطور.
إذ ادعى قبطان السفينة أنه لا يمكن لشخص يملك أنفًا مثل أنف داروين أن يتحمل ظروف السفر الشاقة.
ولكننا نعلم اليوم أنه وعلى الرغم من قيامنا أحيانًا بعزو صفات للأشخاص اعتمادًا على ملامح وجوههم،
وتكوين آراء عنهم، تؤثر على الطريقة التي نعاملهم بها،
فإن ذلك لا يمت بصلة في العادة لشخصياتهم الحقيقية.
كيف يمكننا إذن قياس الشخصية بأسلوب يتمتع بالمصداقية والصلاحية؟
الأسلوب الأكثر شيوعًا هو الاستبيانات الشخصية.
ولكن كيف نقوم بتحديد أي الصفات نقيس؟
يحتوي القاموس على آلاف الصفات الشخصية كالانفتاح، والتواضع، والمصداقية، والفضول والاجتماعية.
هل تختلف جميع هذه السمات عن بعضها البعض؟
ربما كانت تتشارك فيما بينها في الكثير من الأمور؟
كيف لنا أن نعرف ذلك؟
تبين أنه إن طلب من أشخاص تقييم كل واحدة من هذه السمات لديهم،
مثلاً: "ما درجة فضولك، على مقياس من الواحد إلى السبعة؟" أو "ما درجة تواضعك، على مقياس من
الواحد إلى السبعة؟" فسنلاحظ أن جميع السمات مرتبطة ببعضها البعض.
فالمصداقية والأمانة والإخلاص تعبر جميعها عن سمة واحدة.
وإن كنت أتحلى بواحدة منها فأنا في العادة أتحلى بالسمات الأخرى أيضًا.
ولكن الشجاعة والتفاؤل والتواضع ليست مرتبطة ببعضها البعض بالضرورة.
ولكن في نهاية الأمر وعن طريق استخدام أسلوب إحصائي يسمى التحليل إلى عوامل،
ويقوم باختبار العلاقة بين جميع السمات التي تم اختبارها، مئات أو آلاف السمات،
تم التوصل إلى خمس سمات فقط تحتوي جميع السمات الأخرى.
أي أن كل واحدة من السمات المذكورة في القاموس ترتبط على الأقل بإحدى
هذه السمات الخمس، وهذه السمات الخمس لا ترتبط ببعضها البعض.
وبغض النظر عن قيامنا ببدء الاختبار بأربعة آلاف سمة أو بستين سمة، فإن الأبحاث تظهر
باستمرار أننا نتوصل في النهاية إلى خمس سمات تشمل في
طيها جميع السمات الأخرى.
فيما يلي السمات الخمس: Extroversion – الانبساطية.
Neuroticism – العصابية. Agreeableness – الانسجام.
Conscientiousness – الضمير أو الوعي.
Openness to experience – أي الانفتاح على الخبرة.
ونظرًا لأن الكثير من الدراسات التي تم إجراؤها تتوصل دائمًا إلى هذه السمات
فقد سميت The Big Five، وما يميزها هو أنه لم يتم اكتشافها بعد أن قام
منظر من مجال علم النفس بوضعها، وإنما تم اكتشافها بواسطة دارسات تجريبية.
أي أنه لا وجود لنظرية تتنبأ بأن هذه هي السمات الخمس الرئيسية التي تتكون منها شخصياتنا،
ولكن هذا ما تكشف عنه الدراسات المتكررة.
ونظرًا لأهمية هذه الصفات ولوجود آلاف البحوث التي قامت بدراستها
فسنتعرف على كل واحدة منها، وعلى ما تشمله وكذلك على طريقة قياسها.
سأقرأ عليكم بعض النقاط حول كل منها.
الانبساطية، على سبيل المثال، هي سمة تشمل رغبات اجتماعية عالية،
والقدرة على الاتصال، وميل للثرثرة والنشاط.
ولقياس مدى انبساطية شخص ما عليه أن يحدد مدى
انطباق كل من النقاط التالية عليه: ثرثار، حيوي،
حازم، مثير للحماس، اجتماعي ومنفتح.
وكذلك السمات المعاكسة، مثل: متحفظ، هادئ، خجول.
إن أجاب الشخص بأن السمات الخمس الأولى تنطبق عليه، بينما لا
تنطبق عليه السمات الثلاث الأخيرة فإنه يعتبر منبسطًا.
أما من أجاب بالعكس وقال إنه متحفظ وقليل الحديث فهذا يعني أنه غير منبسط.
أما السمة الثانية فهي العصابية، والتي تتميز بميل للقلق، والاكتئاب، والعصبية والوسوسة.
الأشخاص الذين يعانون من استقرار عاطفي منخفض يقولون إن السمات التالية تصف
سلوكهم: متوتر أحيانًا، مكتئب وأميل للحزن،
أقلق كثيرًا، أعاني من تقلب في المزاج، أغضب بسرعة.
ومن ناحية أخرى فهم يقولون إن الصفات التالية لا تنطبق عليهم: أنا
شخص هادئ وأتعامل جيدًا مع الضغط، أنا مستقر عاطفيًا ولا أحزن بسرعة،
أحافظ على هدوئي في المواقف الموترة.
السمة الثالثة هي الانسجام، وتشمل اللطف، والإخلاص واعتدال المزاج.
الأشخاص الذين يتحلون بهذه السمة يصفون أنفسهم بأنهم قادرون على الصفح،
ويثقون بالآخرين، ويراعون الآخرين، ويحبون التعاون مع الآخرين.
كما يذكرون أنهم لا يحبون انتقاد الآخرين والبحث عن عيوبهم،
ولا يميلون لتشجيع الخلافات مع الآخرين، ولا يعاملون الآخرين ببرود وبتكبر، وليسوا وقحين مع الآخرين.
الصفة الرابعة هي الضمير.
الأشخاص الذين يتحلون بهذه الصفة يتمتعون بالمسؤولية، والاجتهاد، وبقدرة عالية على ضبط النفس.
وهم يختارون النقاط التالية بصفتها سمات يتميزون بها: أقوم بعملي بجد واجتهاد،
أتمسك بالهدف إلى أن أقوم بتحقيقه بشكل كامل، أؤدي عملي بإتقان، أضع الخطط وألتزم بها.
أما النقاط التالية فلا تنطبق عليهم: أكون عديم المبالاة أحيانًا، أميل إلى الكسل، يتشتت ذهني بسهولة.
أما السمة الخامسة فهي الانفتاح على الخبرة، Openness to Experience،
وتشمل الخيال الواسع، والفضول، وسعة الأفق.
يشمل الاستبيان الذي يقيس هذه السمة النقاط التالية: أنا شخص خلاق أقوم بطرح أفكار جديدة،
لدي فضول لمعرفة الكثير من الأشياء، أنا ذكي ومتوقد الذهن، لدي خيال واسع، مخترع بطبعي.
ومن أمثلة النقاط المعاكسة ما يلي: أفضل العمل الروتيني، لا أهتم كثيرًا بالفنون.
تستخدم الكثير من الدراسات استبيانات ال-Big Five لمعرفة إن كانت قادرة على
التبؤ بأنواع مختلفة من السلوك وبقدرات مختلفة.
مثلاً، أي سمة من السمات الخمس مرتبطة بالذكاء العاطفي؟
لقد تبين أن Agreeableness، و-Openness to Experience و-Conscientiousness
مرتبطة بالذكاء العاطفي.
أي السمات مرتبطة بالتحصيل الدراسي الجيد؟
لقد تبين أن Conscientiousness، وهي السمة التي تقيس الإنجاز والاجتهاد،
لها علاقة بمعدل العلامات في المدرسة، أما Openness، وهي الصفة التي تقيس الفضول
والخيال الواسع فتتنبأ بالنجاح في الامتحانات القياسية أكثر مما تتنبأ به العلامات المدرسية.
أي أنه إن حصل شخصان على معدل علامات متشابه في المدرسة،
بينما حصل أحدها على علامة أعلى في ال-Openness، فإن هذا الشخص سيحصل على علامة أعلى في الامتحان القياسي.
هذان مثالان فقط،
إذ إن هناك اليوم عدد لا نهائي من المقاييس والدراسات التي قاست العلاقة بين السمات الشخصية هذه،
التي تعد السمات الرئيسية لشخصياتنا جميعًا.
ماذا عن أثر العوامل الوراثية والبيئية؟
فيما يتعلق بالسمات الشخصية أيضًا تبين أن هناك معامل ارتباط أعلى لدى التوائم المتطابقين منه لدى التوائم غير المتطابقين.
أي أن للوراثة إسهام مهم في الفروق الشخصية في السمات الشخصية.
ومع ذلك فنحن نرى أن معدل الارتباط بين
التوائم المتطابقة منخفض نسبيًا مقارنة بما رأيناه بالنسبة للذكاء.
يمكن القول إذن أن الجينات والمحيط المشترك يسهمان في جزء فقط من السمات الشخصية.
ما هي العوامل الأخرى المؤثرة في السمات الشخصية؟
تتأثر السمات الشخصية بالمحيط غير المشترك للتوأمين المتطابقين،
ويشمل ذلك التجارب المختلفة التي يمران بها مع أصدقاء مختلفين، والأنشطة المختفة التي يشاركان فيها،
والمعاملة المختلفة التي يحصلان عليها من المحيط، وجميع الأمور التي لا يتقاسمانها.
وهكذا فعلى خلاف الذكاء الذي يتأثر كثيرًا بالجينات المشتركة وقليلاً بالمحيط المشترك،
فإن السمات الشخصية تتأثر كثيرًا بعوامل أخرى تأتي من خارج نواة العائلة.
لقد عرفنا الشخصية على أنها مجموعة من السمات الثابتة،
أي أن الشخصية لا تتغير بشكل ملحوظ بمرور الوقت.
هل الأمر كذلك حقًا؟
أحد التجارب المذهلة التي كشفت عن مدى ثبات السمات الشخصية
هي تجربة المارشملو الشهيرة التي قام بها الباحث الأمريكي والتر ميشيل.
اختبرت هذه التجربة القدرة على تأجيل المتعة لدى الأطفال الصغار.
جلس الأطفال على كراسٍ بجانب طاولة ووضِعت أمامهم في طبق قطعة مارشملو.
وقيل لهم إنهم سيبقون وحدهم في الغرفة الآن، وإن لم يأكلوا المارشملو قبل عودة المشرف
فسيحصلون على قطعة ثانية منه.
تم قياس المدة الزمنية التي مضت قبل أن يأكل كل من الأطفال قطعة المارشملو، وإن
تمكن من ضبط نفسه لحين عودة المشرف.
يمكنكم مشاهدة مقطع فيديو يمثل اختبار المارشملو في موقع الكورس.
تقيس هذه التجربة سمات شخصية مثل الاستبيانات التي تحدثنا عنها قبل قليل،
ولكنها تقوم بذلك بواسطة اختبار سلوكي بدلاً من استبيان الإبلاغ الذاتي.
أي من السمات الخمس مرتبطة برأيكم بتأجيل المتعة؟
هذه التجربة تقيس إذن مدى قدرة الأطفال على تأجيل المتعة،
كما تحاول التعرف على سماتهم الأخرى وكذلك سمات والديهم التي يرتبط بها هذا السلوك.
ولكن المثير للاهتمام في هذه الدراسة هو أنه تم إجراء اختبار آخر على هؤلاء
الأطفال بعد عدة سنوات عندما أصبحوا فتية، وقد تبين أن القدرة على تأجيل المتعة التي
تم قياسها في طفولتهم مرتبطة بالعديد من السلوكيات والقدرات في مرحلة البلوغ.
لقد تبين أن الأطفال الذين حصلوا على علامة عالية في امتحان المارشملو،
وهو ما يدل على قدرتهم على تأجيل المتعة،
يتمتعون كفتية بقدرة أكبر على التركيز، وقدرة أكبر على التحكم في الذات،
وقدرة أكبر على تحمل الإحباط، ويحصلون على علامات أعلى في الامتحانات القياسية،
كما أنهم يتمتعون بمهارات أفضل في العلاقات الشخصية، ويتعاطون المخدرات أقل من غيرهم.
تكشف هذه الدراسة إذن عن أن الشخصية هي أمر ثابت من الطفولة حتى البلوغ.
تم اختبار هؤلاء المشاركين بعد 40 عامًا عن طريق فحصهم بواسطة صورة MRI،
وقد تبين أن الجزء المسؤول عن الإدمان في الدماغ يعمل بشكل مختلف لدى
الأشخاص الذين قاموا بتأجيل المتعة عندما كانوا أطفالاً منه لدى الأشخاص الذين لم يؤجلوا المتعة.
يعد هذا إذن دليلاً مدهشًا على أن السمات الشخصية تبقى ثابتة على مدى سنوات طويلة.
كما نلاحظ أن بالإمكان قياس سمة ما بطرق مختلفة،
سواء كان ذلك بواسطة اختبار مارشملو في سن الرابعة أو بواسطة قياس الميول لتعاطي المخدرات أو التدخين في عمر
لاحق أو عن طريق مراقبة نشاط مناطق معينة من الدماغ ترتبط بسلوك معين.
نلخص: لقياس السمات الشخصية نطلب من الأشخاص في معظم الحالات تعبئة استبيانات.
وعلى الرغم من أن الإبلاغ الذاتي قد لا يعدّ مقياسًا يتمتع بدرجة عالية من المصداقية فإن
النتائج التي نحصل عليها في كثير من الحالات باختلاف الأشخاص والتجارب تتكرر،
وهكذا فإن نظرية السمات الخمس تحصل على دعم من عدد كبير من الدراسات.
ومع ذلك فإن هناك جهود يتم بذلها لتطوير مقاييس أخرى للشخصية
تشمل أيضًا اختبارات سلوكية مختلفة.
ولكن بغض النظر عن نوع المقياس، إن كنا نرغب في التحقق من أنه المقياس الصحيح لقياس سمة ما
فإن علينا التأكد من مصداقيته وصلاحيته.